الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فأجاب : الحمد لله، أما صحبة المردان، على وجه الاختصاص بأحدهم ـ كما يفعلونه ـ مع ما ينضم إلى ذلك من الخلوة بالأمرد الحسن، ومبيته مع الرجل، ونحو ذلك، فهذا من أفحش المنكرات عند المسلمين، وعند اليهود، والنصارى، وغيرهم، فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام ودين سائر الأمم، بعد قوم لوط: تحريم الفاحشة اللوطية، ولهذا بين الله فى كتابه أنه لم يفعلها قبل قوم لوط أحد من العالمين، وقد عذب الله /المستحلين لها بعذاب ما عذبه أحدًا من الأمم، حيث طمس أبصارهم وقلب مدائنهم، فجعل عليها سافلها، وأتبعهم بالحجارة من السماء . ولهذا جاءت الشريعة بأن الفاحشة التى فيها القتل: يقتل صاحبها بالرجم بالحجارة، كما رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين وماعز بن مالك الأسلمى والغامدية وغيرهم، ورجم بعده خلفاؤه الراشدون . والرجم شرعه الله لأهل التوراة والقرآن، وفى السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به). ولهذا اتفق الصحابة على قتلهما جميعًا، لكن تنوعوا فى صفة القتل: فبعضهم قال: يرجموا: وبعضهم قال: يرمى من أعلى جدار فى القرية ويتبع بالحجارة، وبعضهم قال: يحرق بالنار، ولهذا كان مذهب جمهور السلف والفقهاء أنهما يرجمان بكرين كانا أو ثيبين، حرين كانا أو مملوكين، أو كان أحدهما مملوكا للآخر، وقد اتفق المسلمون على أن من استحلها بمملوك أو غير مملوك فهو كافر مرتد. وكذلك مقدمات الفاحشة عند التذاذ بقبلة الأمرد، ولمسه والنظر إليه، هو حرام باتفاق المسلمين. كما هو كذلك فى المرأة الأجنبية. كما ثبت فى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العينان / تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزنى وزناها السمع، واليد تزنى وزناها البطش، والرجل تزنى وزناها المشى، والقلب يتمنى ويشتهى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه). فإذا كان المستحل لما حرم الله كافرًا، فكيف بمن يجعله قربة وطريقًا إلى الله تعالى ؟ ! قال الله تعالى: وإن كان طائفـة من المتفلسـفة ومن وافقهم من ضـلال المتنسـكة جعـلوا عشق الصـور الجميلة من جملة الطريق التى تزكى بها النفوس،فليس هذا من دين المسلمين،ولا اليهود ولا النصارى، وإنما هو دين أهل الشرك الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله . /وإن كان أتباع هؤلاء زادوا على ما شرعه سادتهم وكبراؤهم، زيادات من الفواحش التى لا ترضاها القرود، فإنه قد ثبت فى صحيح البخارى (أن أبا عمران رأى فى الجاهلية قردًا زنا بقردة، فاجتمعت عليه القرود فرجمته). ومثل ذلك قد شاهده الناس فى زماننا فى غير القرود، حتى الطيور. فلو كانت صحبة [المردان] المذكورة خالية عن الفعل المحرم، فهى مظنة لذلك، وسبب له، ولهذا كان المشائخ العارفون بطريق الله يحذرون من ذلك. كما قال فتح الموصلى: أدركت ثلاثين من الأبدال كل ينهانى عند مفارقتى إياه عن صحبة الأحداث، وقال معروف الكرخى: كانوا ينهون عن ذلك. وقال بعض التابعين: ما أنا على الشاب الناسك من سبع يجلس إليه، بأخوف منى عليه من حدث يجلس إليه. وقال سفيان الثورى، وبشر الحافى: أن مع المرأة شيطانًا، ومع الحدث شيطانين، وقال بعضهم: ما سقط عبد من عين الله إلا ابتلاه الله بصحبة هؤلاء الأحداث. وقد دخل من فتنة الصور والأصوات على النساك ما لا يعلمه إلا الله، حتى اعترف أكابر الشيوخ بذلك. وتاب منهم من تداركه الله برحمته. ومعلوم أن هذا من باب اتباع الهوى بغير هدى من الله. وكذلك مؤاخاة [المرأة الأجنبية] بحيث يخلو بها، وينظر منها ما ليس للأجنبى أن ينظره حرام باتفاق المسلمين، واتخاذ ذلك دينًا وطريقًا كفر وضلال. والمال الذى يؤخذ لأجل إقرارهم، ومعونة على محادثة الرجل الأمرد، هى من جنس جعل القوادة، ومطالبتهم له بالصحبة من جنس العرس على البغى. والله سبحانه أباح النكاح غير مسافحين، ولا متخذى أخدان، فالمرأة المسافحة تزنى بمن اتفق لها. وكذلك الرجل المسافح؛ الذى يزنى مع من اتفق له، وأما المتخذ الخدن فهو الرجل يكون له صديقة، والمرأة يكون لها صديق، فالأمرد المخادن للواحد من هؤلاء من جنس المرأة المتخذة خدنًا، وكذلك الجعل والمال الذى يؤخذ على هذا من جنس مهر البغى، وجعل القوادة ونحو ذلك . وأما [الماجريات] فإذا اختصم رجلان بقول أو فعل وجب أن يقام فى أمرهما بالقسط. قال الله تعالى: وقد قال تعالى: فإن كان الشخصان قد اختصما، نظر أمرهما، فإن تبين ظلم أحدهما، كان المظلوم بالخيار بين الاستفاء والعفو، والعفو أفضل، فإن كان ظلمه بضرب أو لطم فله أن يضربه، أو يلطمه، كما فعل به عند جماهير السلف، وكثير من الأئمة، وبذلك جاءت السنة، وقد قيل: إنه يؤدب. ولا قصاص فى ذلك . وإن كان قد سبه فله أن يسبه مثل ما سبه، إذا لم يكن فيه عدوان على حق محض لله، أو على غير الظالم. فإذا لعنه أو سماه باسم كلب ونحوه، فله أن يقول له مثل ذلك، فإذا لعن أباه لم يكن له أن يلعن أباه، لأنه لم يظلمه، وإن افترى عليه كذبًا لم يكن له أن يفترى عليه كذبًا، لأن الكذب حرام، لحق الله، كما قال كثير من / العلماء فى القصاص فى البدن: إنه إذا جرحه أو خنقه أو ضربه ونحو ذلك يفعل به كما فعل. فهذا أصح قولى العلماء، إلا أن يكون الفعل محرمًا لحق الله، كفعل الفاحشة، أو تجريعه الخمر، فقد نهى عن مثل هذا أكثرهم، وإن كان بعضهم سوغه بنظير ذلك . وإذا اعترف الظالم بظلمه، وطلب من المظلوم أن يعفو عنه، ويستغفر الله له، فهذا حسن مشروع. كما ثبت فى الصحيح عن أبى الدرداء: أنه كان بين أبى بكر وعمر كلام، وإن أبا بكر طلب من عمر أن يستغفر له فأبى عمر، ثم ندم. فطلب أبا بكر فوجده قد سبقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر له ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يغفر الله لك يا أبا بكر)، ثم قال: (أيها الناس، إنى قد جئت إليكم فقلت: إنى رسول الله، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، فهل أنتم تاركوا لى صاحبى ؟). وإذا طلب من المظلوم العفو بعد اعتراف الظالم فأجاب، كان من المحسنين الذين أجرهم على الله، وإن أبى إلا طلب حقه لم يكن ظالمًا. لكن يكون قد ترك الأفضل الأحسن، فليس لأحد أن يخرجه عن أهل الطريق بمجرد ذلك، كما قد يفعله كثير من الناس. قال الله تعالى: و[أولياء الله] على صنفين: مقربين سابقين، وأصحاب يمين مقتصدين. كما روى البخارى فى صحيحه عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: من عادى لى وليًا فقد بارزني بالمحاربة. وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، فبى يسمع، وبى يبصر، وبى يبطش، وبى يمشى، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه، وما ترددت عن شىء أنا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه). ثم أكثر هؤلاء الذين يذمون تارك العفو إنما يذمونه لأهوائهم لكون الظالم صديق أحدهم أو وريثه، أو قرينه ونحو ذلك . والله سبحانه أوجب على عباده العدل فى الصلح، كما أو جبه فى الحكم. فقال تعالى: ومن العدل أن يمكن المظلوم من الانتصاف، ثم بعد ذلك الشفاعة إلى المظلوم فى العفو، ويصالحه الظالم، وترغيبه فى ذلك. فإن الله تعالى إذا ذكر فى القرآن حقوق العباد التى فيها وزر الظالم ندب فيها إلى العفو، كقوله سبحانه: وعن أنس قال: (ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شىء فى القصاص إلا أمر فيه بالعفو) وليس من شرط طلب العفو من المظلوم أن الظالم يقوم على قدميه، ولا يضع نعليه على رأسه، ونحو ذلك مما قد يلتزمه بعض الناس. وإنما شرطه التمكين من نفسه حتى يستوفى منه الحق. فإذا أمكن المظلوم من استيفاء حقه فقد فعل ما وجب عليه. ثم المستحق بالخيار إن شاء عفى، وإن شاء استوفى. وللمظلوم أن يهجره ثلاثًا، وأما بعد الثلاث فليس له أن يهجره على ظلمه إياه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن / يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا، ويصد هذا، وخيرهما الذى يبدأ بالسلام). وأما إذا كان الذنب لحق الله كالكذب، والفواحش، والبدع المخالفة للكتاب والسنة، أو إضاعة الصلاة بالتفريط، وواجباتها، ونحو ذلك، فهذا لا بد فيه من التوبة، وهل يشترط مع التوبة إظهار الإصلاح فى العمل ؟ على قولين للعلماء، وإذا كان لهم شيخ مطاع فإن له أن يعزر العاصى بحسب ذنبه تعزيرًا يليق بمثله أن يفعله بمثله، مثل هجره مدة. كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة المخلفين . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يسوسون الناس فى دينهم ودنياهم، ثم بعد ذلك تفرقت الأمور، فصار أمراء الحرب يسوسون الناس فى أمر الدنيا والدين الظاهر، وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يرجع إليهم فيه من العلم والدين . وهؤلاء أولو أمر تجب طاعتهم فيما يأمرون به من طاعة الله التى هم أولو أمرها. وهو كذلك فسر أولى الأمر فى قوله: وإذا كان ولاة الحرب عاجزين ومفرطين عن تقويم المنتسبين إلى الطريق، كان تقويمهم على رؤسائهم وكان لهم من تعزيرهم وتأديبهم ما يتمكنون منه، إذا لم يقم به غيرهم. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهو أضعف الإيمان). وقد يكون تعزيره بنفيه عن وطنه مدة، كما كان عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ ينفى من شرب الخمر. وكما نفى نصر بن حجاج إلى البصرة، لخوف فتنة النساء به، وقد مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفى فى الزنا، ونفى المخنث، وأمر بعض المشائخ للمسىء بالسفر هذا أصله. وهذه جملة تحتاج إلى تفصيل طويل ببيان الذنوب، والتوبة منها، وشروط التوبة، وهو حال مستصحب للعبد من أول أمره إلى آخر عمره، كما قال تعالى: وإذا تاب العبد، وأخرج من ماله صدقة للتطهر من ذنبه، كان ذلك حسنًا مشروعًا قال تعالى: لكن لا يجوز إلزامه بصدقة، ولا تجب عليه لا بإخراج ثيابه، ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يقصد مطالبته بالتوبة أن يؤكل ماله، لا سيما إذا أعنت فجعل له ذنب من غير ذنب، فإن هذا يبقى كذبا وظلمًا، وأكلًا للمال بالباطل، ولا يجب أن يكون ما يخرجه صدقة مصروفًا فى طعام يأكلونه، بل الخيرة إليه بوضعه حيث يكون أصلح وأطوع لله ولرسوله . والذى ينبغى أن ينظر أحق الناس بتلك الصدقة فتدفع إليه. وأما أن يجعل من جملة التوبة صنعة طعام، ودعوة، فهذا بدعة. فما زال الناس يتوبون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من غير هذه البدعة . /وأما الشكر الذى فيه إخراج شىء من ماله: كملبوس، أو غيره شكرًا لله على ما أنعم به، إما من توبة، وإما إصلاح، ونحو ذلك، فهو حسن مشروع، فإن كعب بن مالك لما جاءه المبشر بتوبة الله عليه، أعطاه ثوبه الذى كان عليه، واستعار ثوبًا ذهب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. لكن تعيين اللباس وغيره فى الشكر بدعة أيضًا. فإن فعل ذلك أحيانًا فهو حسن، فلا يجعل واجبًا أو مستحبًا، إلا ما جعله الله ورسوله واجبًا أو مستحبًا، ولا ينكر إلا ما كرهه الله ورسوله. فلا دين إلا ما شرع الله، ولا حرام إلا ما حرم الله. وضرب الرجل تحت رجليه هو من التعزير، فإن كان له ذنب يستحق به مثل ذلك من دين الله، والمؤدب له ممن له أهلية ذلك، فهو حق. وأما كشف الرؤوس، والانحناء فليس من السنة، وإنما هو مأخوذ عن عادات بعض الملوك، والجاهلية، والمخلوق لا يسأل كشف رأس، ولا ركوع له. وإنما يركع لله فى الصلاة، وكشف الرؤوس لله فى الإحرام. وأما [لباس الصوف] فقد لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة الصوف فى السفر، ولهذا قال الأوزاعى: لباس الصوف فى السفر سنة، وفى الحضر بدعة . /ومعنى هذا أن المداومة عليه فى الحضر بدعة. كما روينا عن محمد بن سيرين: أنه بلغه أن أقوامًا يتحرون لباس الصوف. قال: أظن هؤلاء بلغهم أن المسيح كان يلبس الصوف، فلبسوه لذلك، وهدى نبينا أحب إلينا من هدى غيره. وفى السنن: (أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يشهدون الجمعة، ولباسهم الصوف. وفي الحديث الآخر: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قوم مجتابي النمار). والنمار من الصوف، وقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم القطن، وغيره. ومعنى هذا أن اتخاذ لبس الصوف عبادة وطريقِا إلى الله بدعة. وأما لبسه للحاجة والانتفاع به للفقير لعدم غيره، أو لعدم لبس غيره، ونحو ذلك فهو حسن مشروع. والامتناع من لبسه مطلقًا مذموم، لاسيما من يدع لبسه كبرًا وخيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، وقال: (بينما رجل يجر إزاره خيلاء إذ خسفت به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة) وقد كانوا يكرهون الشهرتين من الثياب: المرتفع، والمنخفض. وليس لأحد أن يجعل من الدين، ومن طريق الله إلا ما شرعه الله ورسوله، لاسيما إذا كان التقييد فيه فساد الدين والدنيا، فإن / لبس الصوف، وترقيع الثوب عند الحاجة حسن، من أفعال السلف. والامتناع من ذلك مطلقًا مذموم. فأما من عمد إلى ثوب صحيح فمزقه ثم يرقعه بفضلات، ويلبس الصوف الرفيع الذي هو أعلى من القطن، والكتان، فهذا جمع فسادين: أما من جهة الدين فإنه يظن التقييد بلبس المرقع والصوف من الدين، ثم يريد أن يظهر صورة ذلك دون حقيقته، فيكون ما ينفقه على ذلك أعظم مما ينفق على القطن الصحيح، وهذا مخالف للزهد. وفساد المال بإتلافه وإنفاقه فيما لا ينفع لا في الدين، ولا في الدنيا.
|